التخطي إلى المحتوى

“حدثٌ تاريخيٌ جديد يفتتح عصرًا جديدًا للإنسانية”.. بهذه الكلمات وصف كتاب الورقة البحثية “أول موصل فائق في درجة حرارة الغرفة والضغط المحيطي” اكتشافهم، تلك الورقة التي نشروها على أرشيف المسودات العلمية arXive، وأصدقكم القول، هذا الوصف حقيقي تمامًا، هذا إن صدقت مزاعمهم بالطبع!

لكن، ما هي المواد فائقة التوصيل؟ وما هي ادعاءات فريق الباحثين الكوري الجنوبي؟ ولماذا قد يهمك الأمر؟ ولماذا كل هذا اللغط حوله؟ لماذا لم ينشر ببساطة في إحدى المجلات العريقة مثل Nature وScience؟

هذه الأسئلة وغيرها، ولأجيبك عليها جميعًا، دعني آخذك في رحلة قصيرة داخل أحد أكثر فروع الفيزياء إثارةً للجدل.

قبل توضيح ما هو فائق، دعني أوضح لك ما هو اعتيادي: الموصلات العادية.

منذ اكتشاف الإنسان الكهرباء، أصبحت الأسلاك شيئًا رئيسيًا في حياتنا اليومية، وهي وسيلتنا للاستفادة من التيار الكهربي لأجهزة المنزل أو الشركات، وبغرض تقليل الفقد في التيار الكهربائي الناتج عن مقاومة المواد، اخترنا النحاس كونه المادة الأقل في المقاومة، والأكثر توافرًا وبالتالي الأقل سعرًا، وهي الأسباب التي أهلته ليصبح الخيار الأول في تصنيع الأسلاك.

عندما يسري التيار الكهربي عبر سلك مصنوع من النحاس، تصطدم الإلكترونات بالذرات مستفيدةً من سرعتها في الاندفاع، وكنتيجة لهذا التصادم تفقد الإلكترونات الطاقة التي تتحول بدورها إلى حرارة.

كان هذا هو الموصل الاعتيادي، ووفقًا للجهاز والوظيفة المطلوبة منه تحدد المواد المستخدمة؛ إذا ما كان الغرض من هذا الجهاز هو التسخين أو التبريد أو فقط أداء وظيفة أخرى، مع الحاجة لتقليل الفقد في الطاقة وإنتاج أقل قدر من الحرارة.

كان هذا ما هو عادي، حان وقت ما يفوق المواصفات الاعتيادية.

بدايةً، ولشرح هذا المصطلح، ولتفهم قدر أهمية الاكتشاف – المزمع – الجديد، دعني أقدم لك التعريف الأول لماهية المواد فائقة التوصيل: “هي مواد ذات قدرة فائقة على توصيل التيار الكهربائي دون مقاومة عند درجات حرارة منخفضة للغاية تقارب الصفر المطلق (K) أي نحو (-273.15 درجة مئوية) ومستويات ضغط مرتفعة للغاية”.

مما سبق، نستنتج أنه للوصول بمادة إلى مستوى التوصيل الفائق نحتاج إلى درجات حرارة منخفضة للغاية وضغط مرتفع، وهو ما توصل إليه لأول مرة العالم الهولندي هيكو كامرلينج أونيس (Heike Kamerlingh Onnes) في عام 1911، حين تمكن حينها من تبريد الزئبق إلى درجات حرارة تقارب الصفر المطلق باستخدام الهيليوم السائل.

صورة
مكتشف أول مادة فائقة التوصيل، العالم الهولندي هايك كامرلينغ أونس – المصدر: ويكيميديا

لم يكن الزئبق المادة الوحيدة التي تتسم بالموصلية الفائقة التي جرى اكتشافها، فقد ظهرت العديد من المواد الأخرى التي اتسمت بالصفات نفسها عند ظروفٍ قد تختلف قليلًا أو كثيرًا فيما بينها، مثل التيتانيوم والنيوبيوم وغيرهما.

كما ظهرت مواد تقترب في درجات الحرارة التي تحتاجها لتصبح فائقة التوصيل إلى درجات الحرارة الاعتيادية التي كان أقصاها -23 درجة مئوية، لكنها احتاجت أيضًا إلى ضغط مهول يزيد على آلاف أضعاف الضغط الجوي العادي، وهو ما منع هذه المواد من قلب طاولة العالم أجمع لعدم إمكانية استخدامها في الظروف الاعتيادية اليومية.

يمكننا إذًا أن نستنتج أمرين مما سبق: أولًا، أن المواد فائقة التوصيل هي مواد منعدمة المقاومة الكهربائية، ما يمكنها من توصيل الكهرباء دون أي فقد، على هيئة حرارة مثلما يحدث في كل الأجهزة تقريبًا، بالإضافة إلى خاصية التنافر المغناطيسي التي تعرف بظاهرة مايسنر وتجعل المادة تطفو فوق المغناطيس لتنافرها معه، ما يقلل الاحتكاك الناتج عن الحركة إلى درجة الانعدام.

صورة
تأثير مايسنر – صورة ملتقطة لتأثير مايسنر توضح طفو المادة في الهواء بفضل الموصلية الفائقة – المصدر: ويكيميديا

ثانيًا، لتصبح مادة ما فائقة التوصيل، نحتاج إلى الوصول لدرجات حرارة منخفضة للغاية، بالإضافة إلى ظروف خاصة من ناحية الضغط الجوي الذي قد وصل في بعض تجارب محاولات الوصول لمادة فائقة التوصيل إلى مليوني ضغط جوي، كما في حالة المواد فائقة التوصيل التي تعتمد في تكوينها على الكبريت.

أما ما نحن أمامه اليوم فهو اكتشاف لم يسبق له مثيل، وإن كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية عن المواد فائقة التوصيل في درجة حرارة الغرفة، لكن ذلك أبدًا لم يغن عن الضغط المرتفع، وهو عكس ما سنتحدث عنه الآن.

في 22 يوليو/تموز الماضي، نشرت ورقتان على التوالي على موقع مسودات الأوراق البحثية arXiv تدعيان توصل مجموعة من علماء مركز أبحاث الطاقة الكمية في كوريا الجنوبية إلى اكتشاف مادة فائقة التوصيل أطلقوا عليها LK-99، تستطيع أن تصبح على حالتها تلك عند درجة حرارة الغرفة وفي ظروف الضغط الجوي الطبيعية، وهي مكونة من النحاس والرصاص.

وفقًا لـScientificamerican، فإن المادة الناتجة من دمج مركبات فوسفيد النحاس (Cu₃P) واللاناركيت (Pb₂SO₅)، أظهرت اثنين من أهم خواص المواد فائقة التوصيل وهما المقاومة شبه المنعدمة بالإضافة إلى الفقد الصفري في التيار الكهربي.

كثيرًا ما جرى الإعلان عن مواد فائقة التوصيل، لكن أن تملك الجرأة لتعلن عن التوصل لمادة فائقة التوصيل عند الظروف الاعتيادية من ناحية درجة الحرارة وضغط الجو، هو أمر، بقدر إمكاناته الهائلة على تغيير المستقبل البشري، يحتاج إلى قدر استثنائي من التشكيك والتدقيق لنتأكد من صحته.

ذكرت سلفًا أنه قد تم إطلاق ورقتين في نفس اليوم، بينهما ما لا يزيد على ساعتين، في الورقة البحثية الأولى التي كتب فيها أسماء ثلاثة علماء فقط وهم: سوكباي لي وجي هون كيم ويونج وان كون على الترتيب، أعلنوا أنهم تمكنوا من تعديل أحد أشكال الغالينا (الأباتيت الرصاصي المعدني) وصيغته الكيميائية هي (PbS) وهو كما يتضح من صيغته، مركب من الرصاص والنحاس مع الفوسفور والأكسجين، لينتج عنها ما أطلقوا عليه مادة إل-كي 99.

لم يختلف المحتوى كثيرًا في الورقة البحثية الثانية، وأضيف لها فقط أسماء ثلاثة علماء آخرين وهم: سونجيون إم وسومن أن وكيون هو أوه، كما أضيف لها أن هذه العملية تعتمد في الأساس على عاملين رئيسيين وهما الانكماش في الحجم الذي ينتج عن تحول المركب من عازل إلى موصل بعد استبدال الرصاص بالنحاس، والتفاعل الكهربي لدفع الإلكترونات بعيدًا عن بعضها.

صورة
ورقتا المادة LK-99 فائقة التوصيل التي أطلقها العلماء الكوريين الجنوبيين – المصدر: arXiv

وإثباتًا لصحة ادعاءاتهم، انتشر مقطع فيديو لمادة مرتفعة بشكلٍ جزئي أعلى مغناطيس، ومن المفترض أنه قد تم تصوير هذا المقطع في غرفة ذات درجة حرارة اعتيادية وضغط طبيعي، لكن في النهاية هذا مقطع فيديو، نعم لن أقول إن المادة لا تطير أو أنه مصنوع بواسطة الذكاء الاصطناعي، لكن كيف نضمن من خلال مقطع فيديو أن الظروف التي تم التقاطه فيها هي ظروف طبيعية للغاية دون أي تدخل أو تغيير في الظروف المحيطة؟ كيف نضمن أن هذا الحجر الذي يطفو ليس ببساطة حجر جرافيت، وهو الذي يمتلك الصفات ذاتها من حيث الطفو على المغناطيس دون امتلاكه بقية صفات التوصيلية الفائقة؟

كان هذا أحد الأسئلة التي أثارت جدلًا كبيرًا في الأيام القليلة السابقة على منصات التواصل الاجتماعي كنتيجة للجدل الكبير بين كبار علماء الجامعات الأوروبية والأمريكية، لينتج عن هذه التساؤلات، العديد من الأسهم الموجهة لفريق العلماء.

اكتشافٌ كالذي يدعيه العلماء الكوريون هو اكتشاف قد يحصل على جائزة نوبل في الليلة التي تلي نشره في الصحف العلمية الكبرى، ولم يخطئ العلماء في وصف هذا الاكتشاف بأنه يفتتح عصرًا جديدًا للإنسانية، لكن بقدر أهمية الأمر تزداد الشكوك حوله.

طوال سنوات، سمعنا كثيرًا عن اكتشافات لمواد فائقة التوصيل في درجة حرارة الغرفة، وما تلبث هذه المزاعم أن يتم التدقيق فيها بواسطة كبار العلماء حتى تندثر بسبب عدم وجود الأدلة الكافية على مصداقيتها، وأول الأسهم الموجهة حتى هذه اللحظة إلى اكتشاف الفريق الكوري أن هذه الاكتشافات، وتحديدًا الورقتان، لم تخضعا بعد إلى ما يعرف بمراجعة الأقران، وهي عملية أساسية ضمن مراحل النشر الأكاديمي في المجلات الكبرى، ما يعني أن كلتاهما مجرد بحث لم يثبت مصداقيته بعد.

كما أنه يبدو أن هناك خلافًا فيما بين الكتاب الست بخصوص أحقية كلٍ منهم بجائزة نوبل، وهي الجائزة التي تمنح بحدٍ أقصى لثلاثة علماء فقط، ومثل هذه الخلافات قد لا نراها في عمل ذي مصداقية أكبر.

أكد هذه الشكوك سوبير ساخيدف، أستاذ الفيزياء في جامعة هارفرد، الذي علق على اكتشاف العلماء الكوريين قائلًا: “كل عدة أعوام، تظهر ادعاءات بمواد جديدة وبشكلٍ مفاجئ تصبح موصل فائق أفضل، أما آخر مرة أصبح هذا حقيقة كان في عام 1987”.

كان العام 1987 قد شهد اكتشاف الـCurpate Compounds وهي مركبات تحتوي على النحاس وانقسمت إلى عضوية وغير عضوية وكان لها خصائص المواد فائقة التوصيل.

لكن بسبب الادعاءات التي سبقت الاكتشاف الأخير منذ عام 1987، التي أثبتت فشلها بعد إخضاعها للفحص الدقيق ومراجعة الأقران، أصبح التشكيك هو الحالة الافتراضية للعلماء عند مواجهتهم لمثل هذه الاكتشافات، فكان من بين المواد التي تم ادعاء موصليتها الكهربية الفائقة هي مواد مثل شرائح الألومنيوم والكربون، والمركبات التي تعتمد في تركيبها على الأمونيا، وقائمة طويلة من الإخفاقات على مدار السنوات السابقة.

لعلك تتساءل الآن: ما أهمية اكتشاف مثل هذا؟ ولماذا يدور كل هذا الجدل حوله؟ حسنًا، دعني أخبرك أن اكتشافًا مثل هذا كفيل بتحويل مسار الإنسانية بالكامل، تمامًا كما حدث عند اكتشاف الكهرباء.

كما ذكرت سلفًا، فإن الموصلات الفائقة تسمح لنا بفعل الكثير باستخدام الخاصتين الأساسيتين فيها وهما:

  • انعدام مقاومة التيار الكهربي.
  • التنافر مع القوى المغناطيسية.

بهاتين الخاصيتين، يمكننا تحقيق الكثير مما حلمت به الإنسانية، بدايةً من القطارات الطائرة (MagLev)، وهي قطارات تسير على قضبان من المغناطيس، ومع استخدامها للمواد فائقة التوصيل يجعل هذا من احتكاكها منعدمًا، كما يصبح استهلاكها للكهرباء وتوليدها للحرارة أقل بكثير.

صورة
القطارات فائقة السرعة بواسطة Gabrielchl – المصدر: ويكيميديا

كذلك تحتاج الحواسيب الخارقة (الكمومية) إلى استهلاك قدر كبير من الطاقة وتنتج قدرًا هائلًا من الحرارة لتنفيذ العمليات الحسابية المعقدة، لتصبح الموصلات الفائقة هي الخيار الأمثل لها لتفتح للبشرية أبوابًا لم تصل إليها من قبل.

سيستفيد الطب أيضًا من الموصلات الفائقة في توليد مجالات مغناطيسية لاستخدامها في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، كما ستستخدم في مسرعات المجسمات وستسهل من عملية تخزين طاقة الكهرباء وإطلاقها عند الحاجة دون أي فقد، ومع توافرها وإمكانية القيام بوظائفها في الظروف الاعتيادية من حيث الضغط ودرجة الحرارة، فإن هذا الاكتشاف قد يسرع من معدل إنجاز كل الخطط التي تشمل التحول البيئي من البنزين إلى الكهرباء، وذلك من ناحية تخزين الطاقة، وكذلك توليدها بأعلى كفاءة ممكنة.

كما يمكن أن تصل الاستفادة من المواد فائقة التوصيل أيضًا إلى الفضاء، وذلك باستخدامها في تحسين كفاءة الأنظمة الكهربائية والمغناطيسية في المركبات الفضائية والأقمار الصناعية.

أخيرًا، فإن عدد اكتشافات المواد فائقة التوصيل التي حازت جائزة نوبل وصلت إلى 8 جوائز منذ عام 1913، ما يدل على أهمية هذه الاكتشافات، لكن دعني أؤكد لك أن اكتشافًا مثل هذا لن يكون أقصى ما يحققه هو جائزة نوبل لهؤلاء العلماء، إنما هو اكتشاف قد يغير من كيفية عمل كل شيء.

في الحقيقة، أنا لا أتمنى أن يصبح هؤلاء العلماء مخطئين أو مجرد مدعين مثل غيرهم ممن سبقوهم منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن في النهاية، على هذه الأوراق الخضوع إلى مراجعة الأقران التي ستثبت بالدليل القاطع ما إذا كانت صحيحة أم لا، خاصةً مع عدم وجود دليل حقيقي حتى هذه اللحظة بخلاف الكلام المكتوب في الورقتين البحثيتين ومقطع الفيديو الذي يؤخذ في عين الاعتبار كدليلٍ علمي ولا يمكن أن يكون بديلًا للاختبارات المعملية للاكتشاف.