التخطي إلى المحتوى

محبوب فرنسا: بعيدٌ عن العيون… ساكن القلوب

يكاد لا يمرّ يوم على الفرنسيين من دون أن يتذكّروا محبوبهم الأوّل، الفنان جان جاك غولدمان. يلتصقون بأغانيه ويعيدون حوارات قديمة له. أما هو فقد اختار الانسلاخ عن المسارح والشاشات، معتزلاً الأضواء منذ 18 سنة.

انكفأ جان جاك غولدمان عام 2005 وهو في عزّ عطائه وشعبيّته. غير أنّ قرار التوقّف عن الإنتاج الفنّي لم يسلبه شيئاً من نجاحه الجماهيريّ. فعلى مدى 12 سنة، لم يتردّد الفرنسيون في إعادة اختياره الشخصية الأحبّ إليهم متجاوزاً بذلك الرؤساء والأدباء وزملاءه الفنانين. أُجريَ آخر إحصاء في نهاية عام 2022 من قبل معهد دراسات الرأي والتسويق الفرنسي IFOP، وقد أظهر أنّ غولدمان ما زال متربّعاً على قلوب أبناء بلده، رغم تَراكم سنوات الغياب.

بعض العطش إلى البطل المتواري قد يشفيه كتابٌ يصدر بعد أيام في باريس للمؤرّخ إيفان يابلونكا، ويحمل عنوان «غولدمان». يتوقّع النقّاد الفنّيون أن تشكّل هذه السيرة غير التقليديّة، نجمة العودة الأدبيّة الفرنسية لموسم خريف 2023.

غلاف كتاب «غولدمان» لإيفان يابلونكا الذي سيصدر في باريس بعد أيام عن دار «سوي» (تويتر)

ليس غولدمان منخرطاً في مشروع الكتاب ولا هو صادرٌ بمبادرةٍ منه، إلا أنّ الفرنسيين يتهافتون على أي معلومة تخصّه. يترقّبون مثلاً مقابلاتٍ مع أصدقائه الفنانين، ليطّلعوا على أحواله وعلى ظروف حياته بعيداً عن الحفلات، والأضواء، والإصدارات الموسيقية.

لكن ما الذي جعل غولدمان الشخصية الأقرب إلى قلوب الفرنسيين، وما الذي صنع منه الغائب الأكثر حضوراً؟

حنين جماعيّ

ارتبط صعود غولدمان إلى النجوميّة بحقبةٍ زمنية شهدت حراكاً اجتماعيّاً وحقوقياً كبيراً في فرنسا. واكب الفنان على طريقته تلك الأصوات المرتفعة مطالبةً بالحق في الاختلاف؛ اختلاف اللون والعرق والدين. سرعان ما تحوّلت أغانيه إلى أناشيد، على رأسها «Je te donne – أعطيك» التي صدرت عام 1985 معلنةً موقفاً ضد العنصرية.

تضامنَ غولدمان في أعماله الموسيقية مع الأقلّيات والفئات المهمّشة والأكثر هشاشةً. غنّى للمحرومين الذين يجتمعون حول موائد الأكل في سلسلة مطاعم «Les Restos du Coeur» الخيريّة، وبكلماته البسيطة والقريبة من الناس استحضر المنسيّين والوحيدين الذين نادراً ما تتذكّرهم الأغاني.

لم يسمح غولدمان يوماً للفنان الذي فيه أن يغلب الإنسان، فامتزجت الإنسانية عنده بالفن لتمتلئ أغانيه بمعاني التعاطف مع الآخر. يطلق كاتب السيرة إيفان يابلونكا على الظاهرة التي صنعها الفنان، عبارة «الغولدمانيّة» بما تحوي من مفاهيم العدالة الاجتماعية، والمواطَنة الحسَنة، ومناهضة العنصريّة، وفضائل العمل، والذكوريّة غير العدائيّة واللطيفة التي تدعم السيّدات المستقلّات.

التزم جان جاك غولدمان قضايا إنسانية واجتماعية غالباً ما انعكست في أغانيه (تويتر)

ليست موسيقاه فحسب وقودَ «نوستالجيا» الفرنسيين إلى جان جاك غولدمان، بل هي تلك الصورة التي رسمها في مخيّلتهم الجماعيّة عن فنانٍ استطاع أن يوحّد المجتمع المنقسم سياسياً وفكرياً بين يمين ويسار، حول المعاني التي يغنّيها. يترجم حبّهم الكبير له حنيناً جماعياً إلى«سنوات غولدمان» المثاليّة والصادقة، والتي لا يبدو أنها عائدة.

بطل يشبه الناس

من بين الأسباب التي جعلت غولدمان محبوب الفرنسيين الأول، أنه يشبه الناس. رجلٌ اعتياديّ شكلاً وأسلوبَ حياة. إن خرج، ففي سيّارةٍ صغيرة يقودها بنفسه، وإن ذهب في إجازة فإلى أمكنة تقصدها الطبقة الوسطى. ليس عنده طائرات خاصة ولا قصور ولا ملابس باهظة… تَعلّم غولدمان من والده الذي عمل سنواتٍ طويلة في المناجم، ألا يسلّط الأضواء على نفسه.

أتته الأضواء والثروات من دون أن يلهث خلفها، لذلك بقي الفنان صلباً أمامها. لم ينسَ البدايات الصعبة ولا عمله كبائع في المتجر الرياضي الصغير الخاص بالعائلة. فغولدمان لم يحقق الشهرة بسهولة، وكان عليه الانتظار حتى سن الـ30 كي تخترق أغنيته «Il suffira d’un signe» مسامع الفرنسيين وقلوبهم.

تكررت النجاحات من بعدها، فتحوّل غولدمان إلى نجم الأغنية الفرنسية خلال الثمانينات والتسعينات. وانسحبت نجاحاته إلى فنانين آخرين ألّف لهم أغنيات كثيرة مثل جوني هاليداي، وسيلين ديون، والشاب خالد، وغيرهم.

تحت ملامحه الاعتياديّة وصوته الخفيض، خبّأ جان جاك غولدمان طموحاً جارفاً. بهدوء وبمزيد من الإنتاجات والحفلات الجماهيريّة، جابهَ بعض الحملات الصحافية العنيفة التي انتقدت موسيقاه، خصوصاً في البدايات.

ومع أنه صار الفنان الأكثر استماعاً ومبيعاً وشعبيةً في فرنسا، إلا أنه لم ينجرف يوماً إلى العادات السيئة التي قد ترافق الشهرة. يحب الفرنسيون في غولدمان تلك الاستقامة التي تميّزه؛ صفر كحول، صفر مخدّرات، لا يدخّن، يمارس الرياضة. أما في «البيزنس» فيختار أفراد العائلة شركاء عمل، يحافظ على موظّفيه، ويشرف شخصياً على التفاصيل، هو المتخصص في التجارة وإدارة الأعمال.

يردّ على بريد الحب

على قاعدة «حتى نحيا سعداء، فلنحيا في الخفاء»، يمضي غولدمان أيامه بين لندن ومرسيليا في فرنسا. يبلغ اليوم الـ71 من العمر، ويتفرّغ لأبنائه وأحفاده محاولاً التلطّي من العيون قدر المستطاع. لا يفعل ذلك تعباً ولا قرفاً ولا فوقيّةً، بل ببساطة لأنه «لطالما رغب بحياةٍ بسيطة وطبيعيّة»، على ما يخبر أحد أصدقائه لمجلّة «Le Point» الفرنسية.

جان جاك غولدمان والفنانة الكندية سيلين ديون التي ألّف لها عشرات الأغاني (أ.ف.ب)

فرض تخلّي غولدمان عن الأضواء نفسَه سبباً إضافياً لاندهاش الفرنسيين به. كيف لنجمٍ بلغ القمّة أن يعود أدراجه إلى الحياة الاعتياديّة؟

يسمعون أخباراً عنه تفاجئهم؛ مع كل مطلع عام يتمنى على المجلة التي تنشر الإحصاء ومرتبته الأولى فيه، أن تمحو الخبر. أما في القرية حيث يمضي الإجازة الصيفية، فقال إلى موظفة السوبر ماركت مرة: «أرجو منك التكتّم على وجودي هنا في حال عرفتِ مَن أكون».

رغم هذا الانكفاء، لا يتردّد غولدمان في وضع لمساته على أغنيات تحمل قضايا إنسانية، ولا في إطلالات خاطفة ضمن حفلات خيريّة. كما أنه ما زال يردّ شخصياً على الرسائل التي تَردُه من محبّيه.

Scan the code