أكثر ما يشدّنا في كتاب الباحثة المصرية فيروز كراوية «كل دا كان ليه»، هو حرصها على دراسة تطوّر الأغنية في مصر، في سياق التحولات التي شهدها المجتمع المصري منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى لحظتنا الراهنة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً. ونعلم، جميعاً، ما لهذا المجتمع من ديناميكية عالية، طبعت تطوّر مصر، ليس في ماضيها فحسب، بل وفي حاضرها المعيش أيضاً، فلم تنظر الباحثة لتطوّر هذه الأغنية منبتاً عن هذا السياق المجتمعي، وإنما اهتمت كثيراً بإبراز الوشائج القوية بينهما.
المؤلفة باحثة وفنانة في الآن ذاته، وحسب سيرتها الموجزة، فإنها حصلت على الماجستير في الإنثروبولوجيا الثقافية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2009، وأصدرت خمسة ألبومات غنائية، ونحو أربعين عملاً غنائياً منفرداً، وصدر لها مؤلف يشي عنوانه بأهميته عن «سينما العشوائيات».
بداهة، لا يمكن بحث تطوّر الأغنية في مصر في الحقب الزمنية التي غطاها الكتاب دون الوقوف أمام ظاهرة فنية غنيّة الأبعاد، يمكن أن نطلق عليها «ظاهرة أم كلثوم»، التي أولتها الباحثة كبير الاهتمام. ورغم جذورها الفلاحية والقروية، فإن أم كلثوم أصبحت ظاهرة مدينية بامتياز، فما كانت ستتحول إلى ظاهرة فنية بهذه الأهمية، لو أنها بقيت في إطار القرية الصغيرة التي ولدت فيها أو في المحيط المجاور لها. القاهرة هي التي صنعت أم كلثوم الظاهرة كما صنعت سواها من عمالقة الموسيقى والغناء الآخرين في مصر.
تركز الباحثة على عتبات المرحلة التاريخية التي انتجت ظاهرة أم كلثوم. إنها حقبة ما بعد ثورة 1919، بكل الآثار التي تركتها هذه الثورة في حياة مصر وشعبها عامة، بما في ذلك في حياة المرأة المصرية، وسيرة وفن أم كلثوم أحد أبرز عناوين هذا التحول، ونرى أن المؤلفة وفقت في إبراز تحوّلات أم كلثوم، المرأة والفنانة، في مراحلها العمرية المختلفة، حين اختارت أن تبرز الفرق بين الآنسة أم كلثوم و«الست» أم كلثوم.
ظلت أم كلثوم حتى آخر حياتها تفخر بجذورها الفلاحية، رغم نجاحها منقطع النظير في أن تصبح ظاهرة «مدينية». وفي بداية وصولها الى القاهرة مع عائلتها، حافظت على الظهور، وهي تنشد أغانيها، خلال عامي 1923 – 1924 مرتدية معطفاً وعقالاً بدوياً، وتجلس على كرسي وهي تغني ولا تقف أبداً، وحولها الرجال بالعمة والجبة والقفطان، على خلاف بقية فناني المدينة الذين يظهر الرجال منهم بالبدل والطرابيش، والنساء بالفساتين مكشوفات الرأس.
الآنسة «عالية الموهبة متقدة الذكاء»، سرعان ما تحولت إلى الست – الرمز، ضمن «تيار جديد في السياسة والفن وفي المجتمع»، دون أن تخدش صورة البنت الآتية من الريف.
[email protected]